"العدالة والتنمية" التُّركي بين السِّياسات والمكاسب.. قُراءةٌ مُغايرةٌ!!...



أردوغان وبيريز.. علاقاتٌ جداليَّةٌ بين بلدٍ مسلمٍ وإسرائيل!!
-    سياسات العدالة والتَّنمية أدَّت لمُتغيِّراتٍ "تكتيكيَّةٍ" لدى الأحزاب العلمانيَّة التُّركيَّة
-    لا يمكن اعتبار تجربة العدالة التُّركي قابلة للتَّعميم على الأحزاب الإسلاميَّة الأخرى في العالم العربيِّ والإسلاميِّ
-    العلاقات مع إسرائيل أكثر نقاط الإثارة للجدل لدى تركيا أردوغان

بقلم: أحمد التِّلاوي
اختباراتٌ عديدةٌ مرَّت بها حكومة حزب العدالة والتنمية التركي خلال الفترة الأخيرة، على مُختلف المُستويات الدَّاخليَّة والخارجيَّة، وفي مُختلف الاتِّجاهات؛ السِّياسيَّة والأمنيَّة والاقتصاديَّة، وبعيدًا عن تقييم هذه الاختبارات ودرجة نجاح العدالة والتَّنمية بقيادة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان في تجاوزها، فإنَّ الدَّلالات الأهم في هذا المقام هي تلك المتعلقة بما أبرزته هذه الاختبارات من قدرة الحزب على تجاوز مثل هذه الاختبارات.
وفي هذا الإطار فإنَّ الدلالات الأهم تكمُن في الكيفية التي استطاع بها العدالة والتَّنمية تطوير أدواته للتَّعامُل مع حزمةٍ من المُشكلات الآنيَّة، وهو ما يعكس درجةً كبيرةً من المرونة في السِّياسات والمُؤسَّسيَّة في التَّخطيط والقرار، بحيث يمكننا أنْ نقول بأنَّ حكومة العدالة والتنمية بأجنحتها الحزبية والسِّياسيَّة تميل إلى العمل بمبدأ "المهنيَّة خير عاصمٍ".
وفي هذا الإطار، فإنَّ أردوغان وحكومته استطاعا خلال الأسابيع الأخيرة الخروج من أكثر من عنق زجاجةٍ مهمٍّ، كان كلٌّ منها كفيلٌ بإسقاط حكومةٍ من حكومات العالم الثَّالث، أو على الأقل بزعزعة الاستقرار فيها.
وكانت الملاحظة الأهم التي توصل إليها المراقبون في هذا المقام، هي أنَّ تركيا- أردوغان استطاعت الموائمة ما بين مختلف اعتبارات الأمن القوميِّ والمصلحة العليا التُّركيَّة في مُقابل الحفاظ على أمرَيْن، الأوَّل هو محاولة الحزب الحفاظ قدر على ثوابت التَّوجُّهات الإسلاميَّة التي يتبناها، والثَّاني هو المُضي قُدُمًا في محاولة استرجاع هوية تركيا الإسلاميَّة.
نجاحٌ داخليٌّ
وبلغ من نجاح حزب العدالة والتنمية في هذا الأمر، أنْ حمل حزب الشعب الجمهوري العلماني العتيد، مُؤسِّس الجمهوريَّة التُّركيَّة العلمانيَّة، على تغيير اتِّجاهاته السِّياسيَّة بمقدار مائة وثمانين درجة، وبدا ذلك واضحًا في بضعة قراراتٍ تبنَّتها قيادة الحزب قُبَيْل أشهر من الانتخابات البلديَّة الأخيرة التي جرت في أواخر مارس الماضي.
في نوفمبر 2008م، ثارت في تركيا نقاشات حادةٌ على إثر الدَّعوة التي وجَّهها رئيس حزب الشَّعب في مدينة إسطنبول، جورسال تكين، للسَّماح بارتداء الحجاب في الجامعات التُّركيَّة، والتي جاءت بالتَّزامُن مع موافقة رئيس الحزب دينيز بايكال، على منح عضويَّة الحزب لعددٍ من النِّساء المُحجَّبات.
واعتبر كثيرٌ من المُعلِّقين هذه الخطوة "خروجًا عن نهج الحزب" الأتاتوركيِّ المعروف بتمسُّكِه الشَديد بمبادئ العلمانيَّة، ورفض أيَّة مظاهرٍ إسلاميَّةٍ في الجمهوريَّة التُّركيَّة.
وبعد ذلك، وفي فبراير الماضي، اتَّخذ حزب الشَّعب قرارًا "ثوريًّا" بفتح فصولٍ خاصة لتحفيظ وتعليم القرآن الكريم بدعوى تقديم التفسير الصحيح لكتاب الله.
المراقبون عندما قاموا بتفسير هذا العمل من جانب حزب الشعب التركي، رأوا أنَّه كان محاولةً من جانب الحزب لاستباق موعد الاستحقاق الانتخابي البلديِّ الذي جرى في التَّاسع والعشرين من مارس الماضي، سعيًا من الحزب لاكتساب أرضيَّةٍ وسط النَّاخبين ذوي التَّوجُّهات الإسلاميَّة، ممَّن ساعدوا على الصُّعود السِّياسيِّ لحزب العدالة والتَّنمية، وكانوا العمودُ الفقريُّ له منذ مطلع الألفيَّة الجديدة.
وفي حقيقة الأمر، فحتى لو كان حزب الشَّعب التُّركيُّ قد حقَّق مكاسبًا في هذه الانتخابات على حساب العدالة والتَّنمية، فإنَّ نتائج الانتخابات البلديَّة تصبُّ في مصلحة أردوغان وحكومته وحزبه؛ حيث إنَّ الانتخابات أثبتت صدقيَّة فهم العدالة والتَّنمية للشَّعب التركي
فحينما عمد حزب الشَّعب لتقليد التوجهات الخاصة بالعدالة والتَّنمية، استطاع الخروج من زنزانته السياسية التي دخلها بعد وفاة زعيمه السَّابق المُحنَّك بولنت أجاويد، الذي هُزِمَ سياسيًّا أمام أردوغان في انتخابات العام 2002م، وهو ما يحسب للعدالة والتنمية وليس لحزب الشَّعب بالأساس، فالشَّعب حقَّق تقدمًا عندما تبنَّى رؤى حزب العدالة.
الملف الثاني الذي كان لحكومة العدالة والتنمية دورًا كبيرًا في ترتيبه بالشكل الذي يحافظ على سلامة الأمن القومي للبلاد من دون التَّورُّط في مغامراتٍ عسكريَّةٍ كان ملف حزب العُمَّال الكردستانيِّ، والملف الكرديِّ عمومًا؛ حيث تبنَّت الحكومة التُّركيَّة الحالية سلسلةً من الإجراءات على الجانبَيْن، الأكراد في تركيا، وحزب العُمَّال الكردستاني المتمركز في شمال العراق.
وأدَّت هذه السِّياسات إلى تحسين الوضع الاقتصاديِّ والأمنيِّ في جنوب البلاد، وإلقاء عددٍ كبيرٍ من جنود الحزب للسِّلاح وتفضيلهم العودة إلى موطنهم الأصلي في جنوب تركيا.
حلف النَّاتو والشرق الأوسط
خلال القمة الأخيرة التي عقدها حلف شمال الأطلنطي (الناتو) في مدينة ستراسبورج الفرنسية، رفضت تركيا، إحدى أهم بلدان الحلف، تعيين رئيس الوزراء الدانماركي السابق أندرياس فوج راسموسن في منصب الأمين العام للحلف محل الهولندي ياب دي هوب شايفر.
وكان لأردوغان ثلاثة تحفظاتٍ رئيسيةٍ على راسموسن وسياساته، وهي:
-    موقف راسموسن من أزمة الرسوم المسيئة للرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم)، التي فجرتها صحيفة الـ(يلاندز بوستن) الدانماركية في العام 2005م، وتبعتها صحفًا نرويجيةٍ وأوروبيةٍ أخرى في العام 2005م، حينما اعتبر راسموسن خلال رئاسته للوزراء أنَّ نشرها حرية تعبير.
-    احتضان الدانمارك لقناة تلفزيونية تؤيد حزب العمال الكردستاني المصنف أوروبيًّا كحركةٍ إرهابيةٍ.
-    معارضة راسموسن لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي صراحةً.
وكانت قمة الحلف في فرنسا، وهي تأتي في الذكرى الستين لتأسيسه قد تبنت مبدأ ضرورة خروج الحلف بمواقفٍ تعطي صورةً سياسيةً وإعلاميةً أمام العالم تقوم بأنَّ أعضاء الحزب أكثر تضامنًا ووحدةً في الرأي أكثر من أي وقتٍ مضى، ولم يكن من المسموح لأحد الخروج على هذا الإجماع، وخصوصًا في قضيتَيْ أفغانستان وخلافة شايفر والعلاقات مع روسيا، خصوصًا في أول قمةٍ للحلف يحضرها الرئيس الأمريكي باراك أوباما.
ولذلك مارست الولايات المتحدة وإيطاليا ضغوطًا على تركيا للتراجع عن قرارها، فما كان من أردوغان إلا أنْ وافق على اختيار راسموسن أمينًا عامًّا، مع تحويل الموقف برمته كالعادة لمصلحة بلاده العليا؛ حيث انتزع منصب نائب الأمين العام للحلف لصالح أحمد المسئولين العسكريين الأتراك.
وذلك مع تطبيق لائحة الحلف التي تعطي المناصب العليا للدول الأعضاء بحسب مشاركتها في قوة الحلف وفي دعم قواعده حول العالم، وهو في صالح تركيا التي تعتبر إحدى أكبر البلدان الأعضاء في حلف الأطلنطي مشاركةً في هذا الإطار.
كانت مواقف أردوغان والحكومة التركية إزاء ملف العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة من القوة بحيث لم يتصور أحد ردًّا من جانب الصهاينة والأمريكيين سوى اغتيال أردوغان سياسيًّا، وتصفيته معنويًّا، وكان آخرها إلغاء مناورات "نسر الأناضول" الجويَّة السنويَّة مع حلف الناتو، بسبب مشاركة إسرائيل فيها.
وفي تبريره للطلب من تل أبيب عدم المشاركة في المناورات، أنَّ الطائرات الإسرائيليَّة التي كانت سوف تجيء إلى تركيا للمشاركة في المناورات، هي ذاتها التي قصفت غزَّة.
نظرةٌ تقيميةٌ
لم يستطع أردوغان وفريقه إنجاز الوضع الذي وصلوا إليه في الوقت الرَّاهن إلا بالعوامل الآتية:
-    الأوَّل امتلاك إرادة القرار، وما تتطلبه من استقرارٍ واستقلالٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ، وفي كافة عناصر القوة الشاملة للدولة.
-    الثَّاني حُسن استغلال عوامل القوَّة الشَّاملة هذه، التي تملكها الدَّولة التُّركيَّة بما في ذلك الموقع الجيوسياسيِّ، وتاريخها في قيادة دولة الخلافة الإسلامية عبر حوالي خمسة قرونٍ من الزمان.
-    حُسْن تقدير الموقف السِّياسيِّ الإقليميِّ والدَّوليِّ، ومدى حاجة مُختلف الأطراف لتركيا كلٌ فيما يخصُّه.
ولا يمكن بطبيعة الحال أيًّا كان الموقف أو التَّحليل الخاص بحزب العدالة والتَّنمية التُّركيِّ وسياسات رئيسه ورئيس الوزراء التُّركيِّ رجب طيب أردوغان، إلا أنْ نصف الحزب وتجربته السِّياسيَّة في تركيا بأنَّها أمرٌ إيجابيٌّ، فمهما كان الوضع، فوصول حزبٍ ذو خلفيَّةٍ إسلاميَّةٍ في هذا البلد يعني نكوصًا على العلمانيَّة التي أرسى دعائمها مصطفى كمال أتاتورك، وإسقاطه الخلافة الإسلاميَّة.
فوصول العدالة والتَّنمية للحكم مثَّل اتجاهًا عكسيًّا أوقف تأثيرات على الأقل حدَّ من انطلاقة قطار العلمانيَّة التي فصلت الدِّين عن الدَّولة، وعزلت الإسلام عن الحكم، وحاربته في مظاهِرِهِ، بما في ذلك مناهج التعليم، ومراكز تحفيظ القرآن الكريم، وكتابة اللغة التُّركيَّة بحروفٍ لاتينيَّةٍ بدلاً من العربيَّة، وصولاً إلى منع حجاب المرأة المسلمة، مع ربط تركيا ربطًا عضويًّا وفكريًّا بالمشروع الغربيِّ.
كما أنَّ حكومات العدالة والتنمية المتعاقبة بدأت في إعادة الروح والهويَّة الإسلاميَّة للمجتمع التُّركيِّ تدريجيًّا، فخاضت معركة الحجاب، ومعركة مراكز تحفيظ القرآن الكريم، وبدأت في إعادة عبارة الخلافة العثمانيَّة" إلى الأدبيَّات الإعلاميَّة التُّركيَّة، ومن قبل وأثناء توليه منصب العمدة في محافظة إسطنبول، عمد أردوغان إلى القضاء على تجارة الرقيق الأبيض وإغلاق بيوت الهوى عبر توفير المهن الشَّريفة الَّلازمة للفتيات العاملات في هذا الحقل.
إلا أنَّه على الجانب الآخر، سواءً على المستوى الفكريِّ- التَّنظيري أو التَّطبيقي العملاني لا يمكن القول إنَّ تجربة الحزب في تركيا تعني انتصارًا كاملاً للمشروع السِّياسيِّ الإسلاميِّ في صورته النَّقيَّة، سواء في هذا البلدٍ الذي كان هو عاصمة الخلافة الإسلاميَّة، أو على مستوى تجربة المشروع السِّياسيِّ الإسلاميِّ في العالم، كنموذجٍ يحتذى به، لعددٍ من الأسباب التي من أهمُّها التزام أردوغان بقواعد العمليَّة السِّياسيَّة التُّركيَّة وبأحكام الدُّستور، حتى وصلت به المواءمة السِّياسيَّة إلى الإعلان علنًا أنَّه ملتزمٌ ليس فحسب بالطَّبيعة المدنيَّةِ في إطار مرجعيَّته السِّياسيَّة، بل قال إنَّه ملتزمٌ بهويَّةِ تركيا العلمانيَّة.
وفي البداية، قال أردوغان: "إننا لن نحيد عن العلمانيَّة، ولن نغيِّر فيها أيَّ شيء، بل ما جئنا إلا للمحافظة عليها"، وذلك لكي يحافظ على الشَّعرة القائمة بينه وبين المُؤسَّسة العسكريَّة التُّركيَّة التي هي الحارس الأول للنِّظام الجمهوريِّ العلمانيِّ في تركيا، بموجب الدُّستور الموضوع في العام 1983م بعد ثلاث سنواتٍ من الحكم العسكريِّ إثر انقلاب الجنرال كنعان إيفرين.
حيث اشترطت وقتها المُؤسَّسة العسكريَّة أنْ يتم منحها صلاحياتٍ دستوريَّةً لعزل أيَّةِ حكومةٍ ترى أنَّها تتجاوز في سياساتها الأسس العلمانيَّة للدَّولة التُّركيَّة، لكي تسمح بعودة الحكم المدنيِّ للبلاد، وهو ما جرى مع حكومة حزب الرَّفاه الإسلاميِّ بزعامة نجم الدِّين أربكان، الذي كان أوَّل رئيس وزراء إسلامي في تركيا، في أواخر التسعينيَّات، فضغط الجيش على الإسلاميِّين عن طريق الرَّئيس سليمان ديميريل، فاستقال الإسلاميون من الحكم، وتمَّ حظر حزب الرَّفاه في العام 1998م.
ويمكن القول إنَّ التبدلات التي طرأت على السِّياسة التُّركيَّة في عهد أردوغان أنْ نعزوها إلى أنَّ تركيا تشهد تحولاتٌ عديدةٌ منذ مطلع السَّبعينيَّات سواءً فيما يتعلَّق بالعودة للجذور الإسلاميَّة أو في زحزحة الأحزاب العلمانيَّة عن عرشها، ففي العام 1970م ظهر النِّظام الوطني، أوَّل تجارب أربكان في العمل الحزبي، ثمَّ حلَّ محلَّه حزب السَّلامة الوطنيِّ، وتراجعت حدَّة سياسات الاحتواء التي مورست ضد التَّيَّارات الإسلاميَّة في البلاد، وكان في ذلك نواةٌ لتحولاتٍ كبرى فيما بعد، وفي مطلع التسعينيَّات، بدأ الشُّعور الدِّينيِّ في التَّنامي رغم انفتاح البلاد الواسع على الغرب، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وذلك بسبب اتِّخاذ الدِّول الغربيَّة مواقفٍ سلبيَّةٍ تجاه تركيا بعد اجتياحها جزيرة قبرص.
ومن هنا نرى أنَّ التحولات في تركيا نحو الجذور الإسلاميَّة هي التي أتت بأردوغان للحكم أوَّل مرَّةٍ في العام 2002م، وليس العكس، أي ليس أردوغان هو الذي أوجد الصَّحوة الإسلاميَّة في تركيا، على حداثة عهد الحزب بالحياة السِّياسيَّة التُّركيَّة، فهو في الأساس خارجٌ من رحم حزب الرفاه الأربكاني في التِّسعينيَّات الماضية، عندما لم يرض أردوغان والرئيس الحالي للجمهوريَّة عبد الله جول عن سياسات أستاذهما أربكان، ورأيا ضرورة التَّوائم السِّياسيِّ مع الأمور القائمة في تركيا حتى يتسنَّى الوصول للحكم، وهو ما رفضه أربكان، فانشق جول وأردوغان وأعدادٌ أخرى عن الحزب، وأسسوا "العدالة والتنمية".
قراءةٌ مغايرةٌ
لا يجب قصر مثل المواقف التي تبنَّاها أردوغان إزاء المحرقة الإسرائيليَّة الأخيرة في قطاع غزَّة على حكومات العدالة والتَّنمية فحسب، بل إنَّ هناك سوابق حالةٍ كان لحكوماتٍ علمانيَّةٍ تبنَّت سياساتٍ غير مواتيةٍ للرِّياح الغربيَّة والصُّهيونيَّة، ففي العام 1985م، وفي حكم رئيس الوزراء التُّركيِّ تورجوت أوزال زعيم حزب الوطن الأم العلمانيِّ القوميِّ، ناشدت تركيا الولايات المتحدة مساعدتها لتأمين دفاعاتها العسكريَّة، ولكن الولايات المتحدة رفضت وقامت بخفض معوناتها العسكرية لتركيا، فردت الأخيرة بإيقاف العمل باتفاقيَّة القواعد العسكريَّة الأمريكيَّة في البلاد.
في المقابل، وتحت حكم أربكان في العام 1995م، أقامت تركيا اتحادًا جمركيًّا مع الاتحاد الأوروبي عقب مفاوضات استغرقت 20 عامًا، وشنَّت تركيا حملةً عسكريَّةً ضد الأكراد، وفي العام 1996م عقدت تركيا مع إسرائيل اتفاقيَّةً استراتيجيَّةً برعايةٍ أمريكيَّة، منحت بموجبها المقاتلات الإسرائيليَّة حقَّ الوصول إلى القواعد العسكريَّة شرقي تركيا، ولم يستطع أربكان منع هذا الاتفاق.
وأبرزت نتائج انتخابات العامَيْن 2005م، و2007م تراجعًا كبيرًا في الموقف السِّياسيِّ للأحزاب العلمانيَّة حتى في معاقلها الرئيسيَّة في أنقرة والأناضول والبحر الأسود، وغيرها من المدن الكبرى بما في ذلك مناطق جنوب وجنوب شرق تركيا، وهو نتائج كانت مؤشراتها قد بدت في انتخابات العام 2004م البلديَّة، التي خسر فيها حزب الشَّعب الجمهوريِّ الذي أسسه أتاتورك نحو نصف البلديات التي كان يسيطر عليها.
وفي الإطار، لا يمكن إغفال الطَّبيعته الشَّخصيَّة لأردوغان، فهناك عواملٌ عديدةٌ تؤثِّر في سياساته لا يمكن إغفالها أو القول إنَّ لأحدها الغلبة على الأخرى في تحديد سياسات أردوغان، فهو تركيٌّ بمعنى الكلمة، بما في ذلك اعتداده بنفسه، ورفعة نظرته لذاته مقارنة مع الآخرين، كما أنَّه مسلمٌ، وذو خلفيَّةٍ إخوانيَّةٍ، وهي تأثيراتٌ لا يمكن إغفالها حينما نتحدث عن سياسات أردوغان، فالرَّجُل لم ينسحب من دافوس احتجاجًا على كلام الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز الذي برر العدوان الإسرائيليِّ الأخيرة على غزَّة، بل لأنَّ رئيس الجلسة، وهو صحفيٌّ أمريكيٌّ في (الواشنطن بوست) المحافظة، لم يحترمه وقاطعه ولم يمنحه الوقت المماثل الذي حصل عليه بيريز، وهنا تداخلت طبيعة أردوغان التُّركيَّة، فغضب وانسحب من الجلسة، وفي ذات الوقت كانت طبيعته كمسلم تملي عليه الرَّد على بيريز.
بالإضافة إلى أنَّ خلفيَّات ووضعيَّة تركيا، وفق النَّظرة الأمريكيَّة والإسرائيليَّة تسمح لأردوغان في اتِّخاذ أكثر السِّياسات حدَّةً دون خشية ردِّ فعلٍ أمريكيٍّ أو إسرائيليٍّ عنيفٍ، فتركيا بلدٌ مهمٌّ في التَّحالُف الغربيِّ، ولها علاقاتٌ مع الولايات المتحدة في إطار حلف الناتو، ولذلك هو لم يخشَ شيئًا عندما منع الأمريكيون من استغلال القواعد الجويَّة التُّركيَّة في ضرب العراق خلال الغزو الأمريكي البريطانيِّ للعراق في العام 2003م، وهو نموذجٌ مهمٌّ في قياس ردَّة الفعل الأمريكيَّة إزاء تركيا في أيِّ موقفٍ مماثلٍ.
فأهميَّة تركيا لدى التَّحالُف الغربيِّ أكبر من مجرَّد مثل هذه السِّياسات والمواقف، فتركيا الإسلاميَّة السُّنِّيَّة مثلها في ذلك مثل باكستان، واجهةٌ قويَّةٌ للغاية لدخول الولايات المتحدة والكيان الصُّهيونيِّ لساحة العالم الإسلاميِّ، وتزداد أهمِّيَّة هذا الدَّور التركيِّ بوجود حكمٍ ذو مرجعيَّةٍ إسلاميَّةٍ مثل حكومة العدالة والتنمية الحالية.
ولذلك وبتأييده العلمانيَّة وتدعيمه العلاقات مع إسرائيل اكتسب الحزب تأييد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة؛ فتمَّ أولاً الضَّغط على المُؤسَّسة العسكريَّة في تركيا للقبول بنتائج العمليَّة الديمقراطيَّة، ولولا هذا لما تمكَّن الحزب من تحقيق النجاح وتشكيل الحكومة، كما حقق أردوغان اختراقاتٍ كبيرةً في مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي.
ولا ننسَ هنا أنَّ تركيا هي العنوان الأوَّل لمفاوضاتٍ غير مباشرةٍ بين الكيان الصهيونيِّ وسوريا طيلة العامَيْن الماضيَيْن.
كما أنَّ تركيا مواقفها محسوبةٌ بدقةٍ لا تثير أزمةً فعليَّةً في العلاقات بينها وبين الغرب وإسرائيل، فلم يتَّخذ أردوغان خلال عدوان إسرائيل على غزة السِّياسات الفعليَّة التي تهدد الأمن القوميِّ الإسرائيليِّ، فهو لم يسحب اعتراف تركيا بإسرائيل، ولم تقطع العلاقات بين البلدَيْنن ولم يسحب حتى السُّفراء، واكتفى بمواقفٍ دعائيَّةٍ وسياسيَّةٍ تُحقِّق أهدافه المزدوجة:
1-    تدعيم شعبيَّته في العالم العربي والإسلاميِّ.
2-    المزيد من الاختبار لمدى أهميَّة تركيا في العالم الغربي، وذلك انطلاقًا من إدراكه لطبيعة الدَّور التُّركيِّ الهام في هذا الإطار.
وبالفعل بينما أردوغان يعترض على بيريز وينسحب من دافوس، فإنَّ الولايات المتحدة وإسرائيل سمحت لأردوغان بالاستمرار في دور الوساطة في الملف الفلسطيني- الصهيوني، بما في ذلك الدُّخول في دور وساطةٍ مع حركة حماس فيما يخص الجانب الخاص بصفقة تبادُل الأسرى بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينيَّة.
كما أنَّ رد الفعل الإسرائيليِّ والأمريكيِّ الرسميِّ إزاء ما فعله أردوغان خلال أزمة غزة، لم يتجاوز انتقاداتٍ دبلوماسيَّةً واهنةً.
وفي الختام نقول إنَّ السِّياسة الأمريكيَّة في الوقت الرَّاهن تجاوزت وحلفائها الصورة القديمة التي كانت سائدةً إبَّان الحرب الباردة والصِّراع مع الاتحاد السُّوفيتي السَّابق علنًا؛ حيث الحليف يجب أنْ يكون شديد العداء للعدو المشترك، أمَّا الآن فإنَّه من المصلحة أنْ يكون هناك حلفاءُ لنا من داخل معسكر الأعداء، بحيث يمكن حصار هذا المعسكر من الدَّاخل.

0 تعليقات:


تقرأون في العدد الجديد



تركيا.. بين الحنين للأصل والتَّوجُّه غربًا!!...


كانت منطقة الشَّرق الأوسط خلال الفترة القليلة الماضية على موعدٍ مع ظهور لاعبٍ جديدٍ في الُّلعبة السِّياسيَّة الإقليميَّة..


تحالفاتٌ مصريَّةٌ جديدةٌ.. "مايحكومشِ"!!...

ولا نَزَالُ مع قضيَّة السَّاعة على السَّاحة السِّياسيَّة المصريَّة، وهي قضيَّة التَّحالُفات الوطنيَّة في مصر






صناعة الدَّواء في مصر.. صناعةٌ إستراتيجيَّةٌ في قبضة الاحتكارات!!...






تركيا.. الحنين إلى الشَّرق والتَّطلُّع إلى الغرب..
ملف خاص عن تركيا ...






الإخوان المسلمين.. انشقاقاتٌ.. ولكن هل من تأثيراتٍ؟!...
أنشطة المُخابرات الإسرائيليَّة والغربيَّة في السُّودان
رؤيةٌ أمريكيَّةٌ مُغايرةٌ حول المشهد المصري



الوجود العسكريُّ الأمريكيُّ في العالم العربيِّ ومخاطره





جمهوريَّات الموز".. من أمريكا الوسطى إلى الشَّرق الأوسط!!...





القرار ١٨٩١ (٢٠٠٩) الذي اتخذه مجلس الأمن في جلسته المعقودة في ١٣ أكتوبر ٢٠٠٩ بشأن السُّودان...





الصحافة العالمية في الأسبوع

لا عجب في كَوْن حماس ليست خائفةً!!



صورة العدد 8



فريق العمل

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التَّحرير

عبد الجليل الشَّرنوبي

مدير التَّحرير

أحمد التلاوي

المشرف العام

علاء عيَّاد

فريق التَّحرير (بحسب التَّرتيب الأبجدي)

أحمد عبد الفتَّاح

إيمان إسماعيل

الزَّهراء عامر

سامر إسماعيل

شيماء جلال

عبد العظيم الأنصاري

كارم الغرابلي

مراجعة لغويَّة

أحمد محمود

تنفيذ وإخراج

أحمد أبو النَّجا

تصوير

محمد أبو زيد

باحثون ومشاركون من الخارج

مُحمَّد الشَّامي

الموقع الإلكتروني

أحمد عبد الفتاح


لافضل تصفح