مقابر الأرقام.. مأساةٌ فلسطينيَّةٌٌ صامتةٌٌ!!...


غزَّة- كارم الغرابلي
مأساةٌ فلسطينيَّةٌ جديدة تجري فصولها في صمتٍ كما هي العادة في القضيَّة الفلسطينيَّة؛ حيث كشف الأسير السَّابق والباحث المختص بشئون الأسرى عبد النَّاصر فروانة، بأنَّ سُلُطات الاحتلال الإسرائيلي تحتجز جثامين 25 شهيدًا من سُكَّان قطاع غزَّة منذ مرحلة ما بعد التَّوقيع على اتِّفاقيَّات أوسلو بين مُنظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة والكيان الإسرائيلي، وقيام السُّلطة الوطنيَّة الفلسطينيَّة في مايو من العام 1994م، فيما يُعرف بمقابر الأرقام.
وتُقرُّ السُّلطات الإسرائيليَّة باحتجازها لها، وترفض تسليمها للسُّلطة الوطنية أو إعادتها لعائلاتهم لدفنها وفقًا للشَّريعة الإسلاميَّة، وفي أماكنٍ مُؤهَّلةٍ لذلك، ومقابرٍ إسلاميَّةٍ خُصِّصت لهذا الغرض.
واضاف فروانة بأنَّ هذه الجثامين هي لشهداءٍ من سُكَّان قطاع غزة، استشهدوا خلال مواجهاتٍ مع قوات الاحتلال الإسرائيليَّة، أو بعد تنفيذهم لعمليَّاتٍ فدائيَّةٍ ضد قوات الاحتلال، بينها جثامين لـ16 شهيدًا، احتُجِزَت جثامينهم منذ بدء انتفاضة الأقصى الثانية في سبتمبر 2000م، وحتى اندلاع الحرب على غزة في ديسمبر 2008م، ويُعتَبر هؤلاء جزءٌ من مشكلة أكبر؛ حيث يُوجد مئات الجثامين لشهداء ولشهيداتٍ محتجزة لدى سلطات الاحتلال منذ عشرات السنين، ومن كافة المناطق الفلسطينيَّة.
وبيَّن فروانة في تصريحاتٍ خاصَّة لمندوبنا في قطاع غزَّة، بأنَّ احتجاز جثامين الشُّهداء ومعاقبتهم والانتقام منهم بعد موتهم وحرمان ذويهم من دفنهم، شكَّلت ومنذ بدايات السَّبعينيَّات الماضية، جزءًا من سياسة الاحتلال في تعامله مع الفلسطينيِّين، وانتهجها لإخفاء آثار القتل والتَّنكيل بهم، وربما أيضاً لإخفاء سرقة الأعضاء الدَّاخليَّة من بعضهم، والانتفاع بها بشكلٍ غير شرعيٍّ كما أُثير مُؤخَّرًا، وفي بعض الأحيان استخدامها كورقةٍ للضَّغط والمساومة ومحاولةٍ للابتزاز.
وأضاف بأنَّه تمكَّن من توثيق مٌجمل أسماء الشُّهداء من قطاع غزَّة الذين لا تزال سلطات الاحتلال تقرُّ باحتجاز جثامينهم منذ العام 1994م، وظروف استشهادهم والبيانات الأساسيَّة الخاصَّة بهم، بدءًا باحتجاز جثمان الشَّهيد هشام حمد بعد العمليَّة الاستشهاديَّة التي نفذها بتاريخ 11 نوفمبر من العام 1994م، في مفترق مستوطنة نيتساريم جنوب مدينة غزة.
ومرورًا بالشَّهيد إبراهيم حسونة مُنفِّذ العمليَّة الفدائيَّة في تل أبيب في مارس 2002م، والذي يُعتَبَر أول شهيدٍ من قطاع غزة يُحتَجز جثمانه منذ بدء انتفاضة الأقصى، وليس انتهاءً باحتجاز جثمان الشَّهيد محمد عزمي فروانة، الذي استُشْهِد خلال مشاركته في تنفيذ عمليَّة "الوهم المُتبدِّد" التي أُسِرَ خلالها الجنديِّ الإسرائيلي جلعاد شاليت في يونيو من العام 2006م، والتي وصلت بمجملها وفق ما هو موثَّقٌ لديه إلى 25 جثمانًا لشهداء من سكان قطاع غزة منذ العام 1994م، وحتى بدء الحرب الأخيرة على قطاع غزة.
وفي السِّياق ذاته أشار فروانة إلى التَّعاطيَ السَّلبيَّ من قِبَلِ قوَّات الاحتلال أثناء حربها على قطاع غزَّة، ورفضها التَّعاوُن مع السُّلطة الفلسطينيَّة أو منظمة الصَّليب الأحمر الدَّوليِّ في شأن أسماء وأعداد من اعتقلتهم، وإصرارها على التعامل معهم وفق مبدأ "مقاتل غير شرعي" الذي "اخترعته" الإدارة الأمريكيَّة السَّابقة في حربها على ما يعرف بـ"الإرهاب"، وعدم سماح قوات الاحتلال بوصول طواقمٍ طبيَّةٍ للجرحى والمصابين أثناء الحرب.
وقال إنَّ كلَّ ذلك فتح الباب على مصراعيه أمام العديد من الاحتمالات حول مصير الذين لا زالوا في عداد المفقودين، والذين لا يُستبعد أن يكونوا قد استُشهِدوا ولا تزال جثامينهم تحت الأنقاض، أو استشهدوا واختُطِفَت جثامينهم، أو اعتقلوا ومن ثمَّ قُتِلُوا ونُقِلُوا إلى ما يُعرف بمقابر الأرقام، في ظلِّ أوضاعٍ غير لائقةٍ ومُهينةٍ لأبسط القيم الإنسانيَّة.
مساومة بجثث الشهداء
وكشف فروانة أنَّ سُلطات الاحتلال، ي حالاتٍ كثيرةٍ استخدمت احتجاز الجثامين كورقةٍ للضَّغط والمساومة، وبغطاءٍ قانونيٍّ وحصانةٍ قضائيَّةٍ، مستحضرًا نموذج احتجازها لجثة الشَّهيد حسن عيسى عباس، من قطاع غزة، والذي استُشْهِدَ خلال مشاركته في عمليَّةٍ فدائيَّةٍ بالقدس الغربيَّة بتاريخ التاسع من أكتوبر من العام 1994م، وكذلك احتجازها لجثَّة الشَّهيد صلاح جاد الله من غزَّة، الذي استُشْهِد بتاريخ 14 أكتوبر من ذات العام، إثر مشاركته في عمليَّة اختطاف الجندي ناخشون فاكسمان.
وقال الفراونة إنَّ السُّلطات الإسرائيليَّة رفضت تسليم جثمانَيْ الشَّهيدَيْن عباس وجاد الله، وربطت قرار تسليمها بالكشف عن مكان دفن جنديٍّ إسرائيليٍّ يُدعى إيلان سعدون، وأضاف أنَّ المحكمة العليا الإسرائيليَّة في ردها على المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أصدرت بتاريخ 12 فبراير 1995م، قرارًا واضحًا وصريحًا يقضي برفض إعادة جثتَيْ الشَّهيدَيْن إلى حين الكشف عن مكان دفن الجندي إيلان سعدون.
وفي أواخر يوليو من العام 1996م، كُشِفَ النَّقاب عن مكان دفن الجندي سعدون، إلا أنَّ سلطات الاحتلال لم تعد جثمانَيْ الشَّهيدَيْن لذويهم، إلا بعد أنْ انقضت ثلاثة أعوام من الاحتجاز.
300 شهيد!!
وكاشفًا عن المزيد من المعلومات، قال فروانة: "في الوقت الذي تُعتبر فيه سياسة احتجاز الجثامين جريمةً أخلاقيَّةً وإنسانيَّةً ودينيَّةً وانتهاكًا فظًّا للمادة 17 من اتفاقية جنيف الأولى التي تكفل للموتى إكرامهم ودفنهم حسب تقاليدهم الدِّينيَّة وأنْ تُحتَرَم قبورهم، فإنَّ سلطات الاحتلال لا تزال تحتجز قرابة 300 جثة في مقابر الأرقام، شهداءٌ وشهيداتٌ من جنسيَّاتٍ مختلفةٍ، وتصر على الاستمرار في احتجازهم".
وقال إنَّ إسرائيل بذلك تُعْتَبَر الدَّولة الوحيدة في العالم التي تنتهج هذه السِّياسة صراحةً وعلنيةً، وتُصدِر أحكامًا باعتقال واحتجاز جثامين الموتى لسنواتٍ طوالٍ!
يُشار إلى أنَّ احتجاز جثامين الشُّهداء والشَّهيدات بشكلٍ عامٍ لا يقتصر على مُنفِّذي العمليَّات الاستشهاديَّة، أو ممَّن استُشْهِدوا خلال اشتباكاتٍ مسلَّحةٍ، بل احتجزت قوات الاحتلال الإسرائيلي أيضًا جثامين عددٍ من الشُّهداء الذين اغتالتهم وحداتها الخاصَّة، أو ممَّن تُوفُّوا في السُّجون الإسرائيليَّة.
وأكد فروانة بأنَّ المئات من الجثامين التي أُعيدَت خلال صفقاتِ التَّبادُل في السَّنوات الأخيرة كانت مُتحلِّلةٌ، وتلك التي لا تزال في مقابر الأرقام هي الأخرى تحلَّلت، فيما بعض الجثامين التي أُعيدَت بعد أيامٍ أو فتراتٍ قصيرةٍ، كانت عليها آثار تشريحٍ، مثل ندبةٍ من أعلى الرَّقبة وحتى أسفل البطن، ممَّا يؤكد على أنَّ هناك أهدافٌ عدَّةٌ من وراء الاستمرار في سياسة احتجاز الجثامين، مثل سرقة أعضاء هؤلاء الشهداء.
مقابر الأرقام
وذكر فروانة بأنَّه كشف في السَّنوات الأخيرة عن أربع مقابرٍ للشُّهداء، معظمها داخل أراضي عام 1948م، وتحتوي على قبورٍ لا فواصل بينها، ومُثبَّتٌ على كلِّ قبرٍ لوحةٍ معدنيَّةٍ أكلها الصَّدأ، وتحمل رقمًا لكلِّ قبرٍ، وليس فيها ما يدلُّ على هويَّات ساكنيها، ولا يعرف إنْ كانت هذه الأرقام تسلسليَّةٍ وحقيقيَّةٍ أم أنَّها مجرَّد إشاراتٍ ورموزٍ إداريَّةٍ لملفَّاتٍ خاصَّة بساكني تلك القبور، ولهذا أُطْلِقَ عليها "مقابر الأرقام".
وثمَّن الباحث فروانة، كل الجهود الوطنيَّة المُخلِصَة التي تُبذَل بهدف تسليط الضَّوء على هذه القضيَّة، ومن أجل استعادة كافَّة جثامين الشُّهداء والشَّهيدات المحتجزة لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي، معربًا عن أمله في أنْ تشهد الفترة المقبلة استعادة بعض الجثامين من خلال المفاوضات في حال استئنافها، على غرار ما حصل منتصف فبراير 2005م، حينما تمكَّنت السُّلطة الوطنيَّة الفلسطينيَّة من استعادة جثامين خمسة عشر شهيدًا فلسطينيًّا كانت محتجزةً لدى سطات الاحتلال عبر معبر بيت حانون "إيرز" شمال قطاع غزة.
كما يعقد الفراونة أملاً على صفقة شاليت، على غرار ما حصل في يوليو من العام 2008م الماضي في إطار صفقة التبادل مع حزب الله، مع التشديد على ألا يكون ذلك على حساب الأسرى الأحياء.
ويبقى أنَّه من حقِّ مئات العائلات الفلسطينيَّة أنْ تحيا على الأمل في انتظار ما لم تنتظره عائلاتٌ أخرى في العالم أجمع، عائلاتٌ تنتظر أنْ تستقبل جثامين شهدائها وشهيداتها المحتجزة لدى سلطات الاحتلال منذ سنواتٍ عديدةٍ، لإكرامها ودفنها وفقًا للشَّريعة الإسلاميَّة، وفي مقابرٍ إسلاميَّةٍ مُعدَّةٍ ومُؤهَّلةٍ لذلك...

0 تعليقات:


تقرأون في العدد الجديد



تركيا.. بين الحنين للأصل والتَّوجُّه غربًا!!...


كانت منطقة الشَّرق الأوسط خلال الفترة القليلة الماضية على موعدٍ مع ظهور لاعبٍ جديدٍ في الُّلعبة السِّياسيَّة الإقليميَّة..


تحالفاتٌ مصريَّةٌ جديدةٌ.. "مايحكومشِ"!!...

ولا نَزَالُ مع قضيَّة السَّاعة على السَّاحة السِّياسيَّة المصريَّة، وهي قضيَّة التَّحالُفات الوطنيَّة في مصر






صناعة الدَّواء في مصر.. صناعةٌ إستراتيجيَّةٌ في قبضة الاحتكارات!!...






تركيا.. الحنين إلى الشَّرق والتَّطلُّع إلى الغرب..
ملف خاص عن تركيا ...






الإخوان المسلمين.. انشقاقاتٌ.. ولكن هل من تأثيراتٍ؟!...
أنشطة المُخابرات الإسرائيليَّة والغربيَّة في السُّودان
رؤيةٌ أمريكيَّةٌ مُغايرةٌ حول المشهد المصري



الوجود العسكريُّ الأمريكيُّ في العالم العربيِّ ومخاطره





جمهوريَّات الموز".. من أمريكا الوسطى إلى الشَّرق الأوسط!!...





القرار ١٨٩١ (٢٠٠٩) الذي اتخذه مجلس الأمن في جلسته المعقودة في ١٣ أكتوبر ٢٠٠٩ بشأن السُّودان...





الصحافة العالمية في الأسبوع

لا عجب في كَوْن حماس ليست خائفةً!!



صورة العدد 8



فريق العمل

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التَّحرير

عبد الجليل الشَّرنوبي

مدير التَّحرير

أحمد التلاوي

المشرف العام

علاء عيَّاد

فريق التَّحرير (بحسب التَّرتيب الأبجدي)

أحمد عبد الفتَّاح

إيمان إسماعيل

الزَّهراء عامر

سامر إسماعيل

شيماء جلال

عبد العظيم الأنصاري

كارم الغرابلي

مراجعة لغويَّة

أحمد محمود

تنفيذ وإخراج

أحمد أبو النَّجا

تصوير

محمد أبو زيد

باحثون ومشاركون من الخارج

مُحمَّد الشَّامي

الموقع الإلكتروني

أحمد عبد الفتاح


لافضل تصفح