مصر واتفاقية حوض النيل الجديدة.. أزمة أمن قومي!!


بقلم: أحمد التلاوي

تواجه مصر في الوقت الرَّاهن واحدةً من أكبر "المطبات" الصعبة التي تواجه الأمن القومي المصري في غضون المائة عامٍ الأخيرة، وهي تلك المتعلقة بالأزمة التي أثارتها عددٌ من دول المنابع في دول حوض نهر النيل بشأن اتفاقيات تقاسم مياه النيل التي تمَّ التوصل إليها في الحقبة الاستعماريَّة بين البلدان المشتركة المتشاركة في مسار نهر النيل ومياهه

وفي حقيقة الأمر أنَّه غير خافٍ على أحدٍ أنَّ الأزمة الأخيرة التي أثارتها هذه الدول تأتي في وقتٍ شديد الحرج بالنسبة لموضوع الأمن المائي المصري؛ حيث بدأت مظاهر العوز المائي في الظهور على أرض الواقع داخل مصر، سواءً على مستوى الاستخدام المنزلي الخاص بمياه الشرب، أو على مستوى الاستخدام الزراعي.وبات من المألوف أنْ نسمع عن أزمة نقص مياه الشرب في بعض القرى المصرية، بل وفي بعض مدن الدلتا ومحافظات القاهرة الكبرى، مثل طنطا وقليوب وغيرها.كما أنَّه بات من المألوف أنْ تطالعنا التقارير الإعلامية والبحثية الصادرة عن بعض الجهات والمراكز المرموقة، ومن بينها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار في مجلس الوزراء عن مشكلات نقص مياه الري الزراعي التي تعاني منها بعض المحافظات المصرية، مثل المنوفية والدقهلية وكفر الشيخ، بل إنَّ الأزمة وصلت إلى درجة تلف وفساد بعض الترع ومسارات مياه الري بسبب نقص مستوى منسوب المياه الواصل إليها، وهو ما يؤدي إلى زيادة ملوحة المياه الباقية فيها، بما يؤثر سلبًا بطبيعة الحال على مستوى جودة الأراضي الزراعية.
كما أنَّ الأزمة اكتسبت أبعادًا وخلفياتٍ أخرى بعد الإعلان عن وجود تخطيط في وزارة الخارجية الصهيونية لترتيب زيارة لوزير خارجية الكيان المتطرف أفيجدور ليبرمان إلى عددٍ من البلدان الأفريقيةن ومن بينها بعض البلدان التي تعاند مصر فيما يخص الاتفاقيات القديمة الموقعة، مثل إثيوبيا وأوغندا، وهي بطبيعة الحال دولٌ باتت مخلب قط كبير للتحالف الاستعماري الغربي- الصهيوني في القارة السوداء.

أطماعٌ صهيونيةٌ
لا يخفى على أحدٍ ما للكيان الصهيوني طيلة العقود الماضية من أطماعٍ في مياه النيل، مع انسجام ذلك مع العديد من المخططات الموضوعة في المشروع الاستعماري الصهيوني التوسُّعي، ومن بينها تطويق الأمن القومي المصري والعربي جنوبًا، ومعالجة مُشكلة نقص المياه المزمنة التي يعانون منها في الكيان الصهيوني، وكذلك محاولة فرض خريطتهم المشئومة "من النِّيل للفرات.. أرضك يا إسرائيل" على العالم العربي والإسلامي كله.
ولا تعود المطامع الصهيونية في مياه النيل إلى فترة نشأة الكيان العنصري في فلسطين، بل تعود إلى ما قبلها، وتحديدًا إلى العام 1930م؛ عندما تقدم زعيم الحركة الصهيونية تيودور هيرتزل إلى الحكومة البريطانية بمشروعٍ لتحويل جزء من مياه نهر النيل إلى صحراء النَّقْب جنوب فلسطين المحتلة.
وفي العام 1974م صمَّم المهندس الصهيوني إليشع كيلي مشروعًا لمحاولة جلب مياه نهر النيل لقلب الكيان، من خلال توسيع ترعة الإسماعيلية حتى يزيد معدل تدفق المياه داخلها وسحبها من أسفل قناة السويس في مشروعٍ أشبه بمشروع تُرعة السلام الحالي.
وبعد التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد أواخر السبعينيات بين مصر والكيان، تقدمت السلطات الصهيونية بطلبٍ لإمداد الكيان بمياه النيل، وهو ما رفضته مصر بموجب الاتفاقيات المُوقعة مع دول حوض النيل، والتي تنص على عدم جواز إمداد أية دولةٍ خارج حوض النيل بمياه النهر.
إلا أنَّ الكيان طيلة السنوات السابقة لم يهدأ له بالاً، وراح يعقد الاتفاقيات مع بلدان المنابع الأهم، مثل إثيوبيا وكينيا، للتعاون المائي معها، وأقيمت بالفعل مشروعاتٍ على مجرى النهر من دون موافقةٍ مصريةٍ، ومن بينها مشروع سد "فيشا" على النيل الأزرق في إثيوبيا.
وفي إطار هذه الخلفيَّات، يزور ليبرمان أفريقيا ودول حوض النيل الرئيسية في الوقت الذي ترفض فيه هذه البلدان الاعتراف بالحقوق التاريخية لمصر والسودان في مياه النيل، والتي أقرتها الاتفاقيات والمواثيق التي وقعت عليها دول الحوض في شأن تقاسم مياه النيل، ومن بينها اتفاقيَّتَيْ العام 1929م والعام 1959م، وكذلك العهود الدولية التي تضع قواعد تقاسم مياه الأنهار الدولية، والتي تنظم حصص المياه بين دول المنابع وبلدان المرور ودول المصب.
الكيان والأزمة الجديدة
ثارت في الفترة الأخيرة مشكلة بين مصر وبعض بلدان حوض النيل التي تطالب بفرض اتفاقية إطارية جديدة على مصر والسودان، بحجة أنَّ الاتفاقيات القديمة موقعةٌ أيام الاستعمار، بالرغم من أنَّ الدول الأفريقية بعد الاستقلال اتفقت على اعتماد العديد من الترتيبات الموروثة من أيام الاستعمار مثل اتفاقيات ترسيم الحدود.
إلا أنَّ القانون الدولي يؤكد بطلان هذا الادعاء، فالمادة 12 من اتفاقية فيينا الموقعة في العام 1978م، تؤكد توارث المعاهدات والاتفاقيات الدولية ذات الطبيعة الفنية, ومنها الاتفاقيات المتعلقة بالأنهار الدولية, وأنه لا يجوز التحلل منها بالادعاء أنها قد أبرمت في الحقبة الاستعمارية.

كما أنَّ محكمة العدل الدولية أصدرت حكمًا أكدت فيه هذا المبدأ في النزاع بين المجر وسلوفاكيا بشأن نزاعهما حول إقامة مشروعات للمياه على نهر الدانوب؛ حيث قررت أنَّ المادة 12 هذه أصبحت جزءًا من القانون الدولي العرفي العام, والذي يلزم جميع الدول, بما فيها الدول التي ليست طرفا في اتفاقية فيينا.
ولذلك رفضت مصر مطالب دول المنبع، وهي إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا والكونغو ورواندا وبوروندي؛ حيث تطالب مصر بأنْ يظل الحال على ما هو عليه، سواءً فيما يخص الحصص المائية أو ترتيبات الوضع بين دول المصب والمنبع.
وتتمسك مصر بثلاثة نقاطٍ أساسيةٍ, وهي: الموافقة المسبقة على أية مشروعاتٍ على حوض النيل, والأمن المائي, والحقوق التاريخية في مياه النيل لدول المصب، وكذلك موضوع الإجماع في القرارات المتخذة الذي تصر عليه مصر والسودان.
وفي فتراتٍ تاريخيةٍ عديدةٍ كانت مصر تدعم بعض المشروعات في دول حوض النِّيل، مع تقديم العديد من المساعدات المادية أو الفنية أو في مجال التدريب وإقامة المشروعات التنموية, بما في ذلك حفر الآبار لتوفير مياه الشرب للمواطنين الأفارقة في هذه البلدان، طالما لا تؤثر على حصة مصر من مياه النهر والتي تصل إلى 55.5 مليار مترًا مكعبًا سنويًّا.
وهي الحصة التي أقرتها اتفاقية العام 1959م الموقعة بين مصر والسودان؛ حيث تحصل مصر بموجبها على 55.5 مليار متر مكعب من المياه سنويًّا أي 78% من مياه النيل المشتركة بينهما، بينما ويحصل السودان على 18.5 مليار متر مكعب أي الـ13% الباقية.
وكثيرًا ما هددت مصر باللجوء إلى الخيار المسلح لوقف أية مشروعاتٍ تمس بأمنها المائي، كما وقع في السبعينيات الماضية، وفي الوقت الرَّاهن طرحت مصر عدة بدائل للتَّعامُل مع الأزمة الحالية، منها التفاوض والوساطة والتحكيم ثم اللجوء إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة.
وتتهم مصادرٌ سياسيةٌ مصريةٌ, دولاً أجنبيةً وعلى رأسها الكيان الصهيوني بالتحريض على الأزمة الحالية لضرب المصالح العربية في أفريقيا.
فبحسب دراسة أجراها الصحفي المصري فتحي خطَّاب، ففي العام الحالي 2009م، قدم الكيان إلى كل من الكونغو الديمقراطية ورواندا- من دول المنبع- دراساتٍ تفصيليةً لبناء ثلاثة سدودٍ، كجزءٍ من برنامج متكاملٍ يهدف الكيان من خلاله إلى التمهيد لمجموعةٍ كبيرةٍ من المشروعات المائية في هذه الدول، وخصوصًا رواندا.
ويتوجه الاهتمام الصهيوني في هذا الإطار إلى نهر كاجيرا, الذي يمثل حدود رواندا مع بوروندي في الشمال الشرقي لإقامة أكثر من سدٍّ عليه, كما تقدم شركات صهيونية دعمًا فنيًّا وتكنولوجيًّا لهاتَيْن الدولتَيْن في مجال الري والزراعة "بشكلٍ شبه مجانيٍّ"!!.
أما في أوغندا, فلا يزال الكيان يقوم بمحاولة بتفعيل اتفاقية تنفيذ مشاريع ري في عشر مقاطعاتٍ متضررةٍ من الجفاف, وإيفاد بعثةٍ أوغنديةٍ إلى الكيان الصهيوني لاستكمال دراسة المشاريع, التي يقع معظمها بالقرب من الحدود الأوغندية المشتركة مع السودان وكينيا, ويجرى استخدام المياه المتدفقة من بحيرة فيكتوريا لإقامة هذه المشاريع, وهو ما يؤدي إلى نقص المياه الواردة إلى النيل الأبيض, أحد أهم الروافد المغذية لنهر النيل في مصر؛ حيث يقدم 16% من الوارد المائي السنوي إلى مصر.
وفي أوغندا أيضًا يحاول الكيان دفع الحكومة الأوغندية إلى إقامة مشروعاتٍ مائية في مقاطعة كاراموجا الواقعة بالقرب من الحدود السودانية, في المقابل تم قتل مشروع قناة جونجلي في جنوب السودان، والذي كان من المفترض بموجبه تجفيف مناطق المستنقعات الموجودة في جنوب غربي السودان، لتوفير أربعة مليارات مترًا مكعبًا من مياه النهر الضائعة في هذه المناطق.
وفي إثيوبيا اتفق الكيان مع الحكومة الصهيونية على إقامة مشاريعٍ مشتركةٍ عند منابع نهر النيل, تتضمن إقامة أربعة سدود على النيل لحجز المياه وتوليد الكهرباء, فضلاً عن ضبط حركة المياه في اتجاه السودان ومصر, ومن المتوقع أن يتم استكمالها خريف العام الحالي، وهو فصل الأمطار في هضبة الحبشة، بعد أن تم تكليف شركة صينية بتنفيذه.
إلى جانب ذلك كله فإنَّ هناك مشروعٌ إثيوبيٌّ صهيونيٌّ بمساعدةٍ ألمانيةٍ يهدف إلى دعم مشروعات التنمية الزراعية في إثيوبيا, وتعمل فيه مجموعةٌ من الشركات الاستثمارية الصهيونية يملكها جنرالات متقاعدون في جهاز الموساد!!
ومن خلال هذا العرض السريع يتضح لنا أنَّ هناك حاجةٌ إلى تحركٍ سريعٍ أيضًا من جانب الحكومة المصرية، أم أنَّ التقصير المعتاد سوف يشمل هذا الملف أيضًا؟!


0 تعليقات:


تقرأون في العدد الجديد



تركيا.. بين الحنين للأصل والتَّوجُّه غربًا!!...


كانت منطقة الشَّرق الأوسط خلال الفترة القليلة الماضية على موعدٍ مع ظهور لاعبٍ جديدٍ في الُّلعبة السِّياسيَّة الإقليميَّة..


تحالفاتٌ مصريَّةٌ جديدةٌ.. "مايحكومشِ"!!...

ولا نَزَالُ مع قضيَّة السَّاعة على السَّاحة السِّياسيَّة المصريَّة، وهي قضيَّة التَّحالُفات الوطنيَّة في مصر






صناعة الدَّواء في مصر.. صناعةٌ إستراتيجيَّةٌ في قبضة الاحتكارات!!...






تركيا.. الحنين إلى الشَّرق والتَّطلُّع إلى الغرب..
ملف خاص عن تركيا ...






الإخوان المسلمين.. انشقاقاتٌ.. ولكن هل من تأثيراتٍ؟!...
أنشطة المُخابرات الإسرائيليَّة والغربيَّة في السُّودان
رؤيةٌ أمريكيَّةٌ مُغايرةٌ حول المشهد المصري



الوجود العسكريُّ الأمريكيُّ في العالم العربيِّ ومخاطره





جمهوريَّات الموز".. من أمريكا الوسطى إلى الشَّرق الأوسط!!...





القرار ١٨٩١ (٢٠٠٩) الذي اتخذه مجلس الأمن في جلسته المعقودة في ١٣ أكتوبر ٢٠٠٩ بشأن السُّودان...





الصحافة العالمية في الأسبوع

لا عجب في كَوْن حماس ليست خائفةً!!



صورة العدد 8



فريق العمل

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التَّحرير

عبد الجليل الشَّرنوبي

مدير التَّحرير

أحمد التلاوي

المشرف العام

علاء عيَّاد

فريق التَّحرير (بحسب التَّرتيب الأبجدي)

أحمد عبد الفتَّاح

إيمان إسماعيل

الزَّهراء عامر

سامر إسماعيل

شيماء جلال

عبد العظيم الأنصاري

كارم الغرابلي

مراجعة لغويَّة

أحمد محمود

تنفيذ وإخراج

أحمد أبو النَّجا

تصوير

محمد أبو زيد

باحثون ومشاركون من الخارج

مُحمَّد الشَّامي

الموقع الإلكتروني

أحمد عبد الفتاح


لافضل تصفح